محمد فاروق الإمام
سخرت لجنة حكومية شكلتها السلطات السورية مؤخرا لصياغة مشروع لقانون الأحزاب – كما ذكرت صحيفة الثورة السورية الرسمية – من الشعب السوري عندما نعتته قائلة: (أنه لا يوجد لديه ثقافة سياسية ولا مشاركة للمواطنين في الحياة السياسية في البلاد).
وما قالته اللجنة بحق الشعب السوري سبق وقاله السيد الرئيس بشار الأسد في مقابلة مع بعض الصحف الغربية قبل اندلاع الثورة واصفاً الشعب السوري (أنه غير مؤهل للديمقراطية).
وقد يختلف أو يتفق البعض مع ما تدعيه اللجنة الحكومية التي كلفت بوضع مشروع قانون للأحزاب بأن الشعب السوري يفتقد للثقافة السياسية، وأن المواطنين السوريين غير مؤهلين للمشاركة في الحياة السياسية في البلاد، والسؤال الذي يطرح نفسه أو يمكن أن يوجه لهذه اللجنة، إن كان ما تدعيه هو واقع، وأنا أشك فيه بل وأطعن فيه: من المسؤول عن جعل الشعب السوري مغيباً عن الثقافة السياسية؟ ومن المسؤول عن إقصاء المواطنين السوريين ومنعهم من المشاركة في الحياة السياسية في البلاد؟ وأتمنى على اللجنة أن تمتلك الشجاعة وتجيب على هذا السؤال!!
ولو وجه نفس السؤال إلى المواطنين السوريين بكل شرائحهم ومكوناتهم وتنوع ثقافاتهم ودرجات علمهم ومستوى معرفتهم لجاء الجواب: المسؤول الأول والأخير هو النظام السادي الشمولي الذي استأثر بالسلطة والثروة لنحو نصف قرن، وجعل من حزب البعث القائد والموجه للشعب والدولة بموجب المادة الثامنة من الدستور الذي فصّله على مقاسه، واختزال الشعب السوري في جبهة وطنية تقدمية هلامية لمجموعة من أحزاب صورية لا تملك أي قواعد شعبية، مهمتها انحناء الرأس بالموافقة على كل ما يطرح عليها، وإلغاء الأحزاب والجمعيات المدنية والإنسانية والبيئية والثقافية، ومصادرة كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية واحتكار الرأي وإقصاء الرأي الآخر، وحل النقابات المهنية والحرفية المستقلة، وإنشاء نقابات واتحادات ذات طابع فكري واحد وثقافة فكرية واحدة لا تخرج عن شعارات حزب البعث وثقافة قادته، وربط كل ذلك بعدد من الأجهزة الأمنية التي تحصي أنفاس المواطنين وتتنصت على نجوى أفئدتهم وتحاسبهم حتى على زلات ألسنتهم وتتدخل بمفردات وخصوصيات حياتهم منذ الولادة وحتى يواري الثرى أجسادهم، وقد توالدت أربعة أجيال في ظل هذا العهد وتربت من خلال مناهج الدراسة الموجهة منذ الصفوف الأولى وحتى المراحل الجامعية العليا على تمجيد ثقافة الخوف والكراهية والصمت وتأليه رأس السلطة والولاء لحزب البعث الشمولي الحاكم الذي يمنع أي إنسان من القبول في وظائف الدولة أو إدراجه في قائمة البعثات العلمية الخارجية إلا إذا كان بعثياً أو مرضياً عنه من جهة أمنية أو كان وراءه شخصية متنفذة في المال أو السلطة، ومن لا تنطبق عليه هذه المواصفات عليه أن يتجرع مرارة الذل والهوان والانغماس في عمل لا يناسب كفاءته أو اختصاصه، فكم كنا نشاهد أحدهم يعمل وراء صندوق تلميع الأحذية وقد وضع نسخة من شهادته العلمية على واجهة ذلك الصندوق وقد كتب تحتها بخط واضح ملفت للنظر: (بويجي مثقف)، وقس على ذلك العديد من المهن الأخرى: (باطونجي مثقف.. بائع خضار مثقف.. سباك مثقف.. فلاح مثقف.. حمال مثقف.. مدهن مثقف.. أجير مثقف.. كنترول مثقف.. مكيس حمام مثقف.. إلخ). وليس ما ذكرته هو انتقاص من أصحاب هذه الحرف الشريفة التي لا يخجل العاملون فيها من الانتماء إليها كسباً للعيش الكريم، ناهيك عن (المرمطة) أمام السفارات العربية والأجنبية لاستجداء الفيزا وفرص العمل، والتسكع بالشوارع والسقوط في الانحراف والرذيلة والجريمة.
لقد غاب عن ذهن هذه اللجنة حقيقة لا تريد أن تعترف بها عن قصد منها وعن سابق إصرار، ظناً منها أن هذا الحزب الشمولي الحاكم بثقافة الإقصاء والتجهيل التي انتهجها لأكثر من أربعة عقود بحق الشعب السوري والمواطنين السوريين قد آتت أكلها، لقد غاب عنها أننا نعيش في عالم الاتصالات التي تحول دون حجب الحقيقة عن أحد، وأن العالم أصبح قرية صغيرة يمكن تداول المعلومة عن أقاصيه ومن أقاصيه بلحظات بالصورة والصوت، وأن منع وسائل الإعلام المحايدة والمستقلة الاقتراب من الحدث أو تغطيته بات شيئاً من عالم الماضي، فكل ما يحدث في سورية اليوم موثق بالصوت والصورة التي يمكن أن تتناقله وسائل الإعلام العالمية إثر وقوعه لحظة بلحظة، وهذا ما جعل النظام يتخبط في شر أعماله، فيقمع المتظاهرين السلميين المنادين بالحرية والكرامة والعدالة بوحشية ما سبقه إليها أحد، ويحاصر المدن والبلدات والقرى ويرتكب فيها الجرائم المشينة التي تقشعر لها الأجساد، التي حركت الضمير العالمي من أقصاه إلى أقصاه، مندداً بهذه الوحشية من القمع التي يواجه بها هذا النظام المجرم المواطنين الآمنين ويروع فيها الأطفال والنساء والشيوخ، ويجبرهم على الفرار والالتجاء إلى دول الجوار.
لقد غاب عن ذهن هذه اللجنة أن سورية قبل أن يفترسها حزب البعث في الثامن من آذار عام 1963 كانت إحدى الجمهوريات الديمقراطية التي تتمتع بوجود أحزاب سياسية متنوعة المشارب والاتجاهات تتداول السلطة بشكل سلمي عبر ما تفرزه صناديق الاقتراع.. وغاب عن ذهن هذه اللجنة أن سورية كانت أول ولاية عثمانية تشهد حراكاً سياسياً متقدما، فقد قامت أولى الجمعيات السياسية فيها عام 1857 ثم تبعتها العشرات من الجمعيات المختلفة والمتنوعة الأهداف، ومن ثم العديد من الأحزاب، وكان لها العشرات من الصحف والمجلات والنشرات التي تعبر عن تطلعات وسياسات هذه الأحزاب والجمعيات، وكذلك الحال أيام العهد الفيصلي الذي تميز بديمقراطية فريدة وقانون حضاري كفل الحقوق والواجبات لكل الناس على قدم المساواة، وأتاح للجميع تشكيل الأحزاب والجمعيات وإصدار الصحف والمجلات التي تعبر عن سياسة وتوجهات هذه الأحزاب والجمعيات بحرية ودون قيود، حتى بلغت الأحزاب والجمعيات في تلك الحقبة من تاريخ سورية الحديث أكثر من خمسة عشر حزباً وجمعية ونادي ثقافي، تنطق باسمها أكثر من عشرين صحيفة ومجلة، وغيرها العشرات من الصحف والمجلات المستقلة، وظل بعض هذه الأحزاب والجمعيات يعمل بصورة علنية أو سرية بعد دخول الفرنسيين سورية واستعمارهم لها.
هذه الوقائع تدحض دعاوي السيد الرئيس بشار الأسد ولجنة الأحزاب التي شكلها والتي تتهم الشعب السوري أنه غير مؤهل للديمقراطية وأنه لا يملك ثقافة سياسية أو حزبية، وأن المواطنين السوريين غير مؤهلين للمشاركة في الحراك الحزبي والسياسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق