12‏/06‏/2011

أفكار حول الثورة السورية - عزمي بشارة



أفكار حول الثورة السورية  - عزمي بشارة

1- لا يمكن أن يستمر النظام السوري على حاله، وكان عليه إما أن يتغير أو يغيره الشعب السوري. وقد اختار النظام ألا يتغير، ومن هنا فسوف يغيّره الناس.
ربما كان النظام السوري قابلاً للاستمرار لو أنه كان مستعدا للتغير، ولو أنه قام -منذ اندلاع حادثة الحريقة في فبراير/شباط (ثم انتفاضة درعا من أجل الكرامة والحرية)- بوضع إستراتيجية إصلاح تدريجية -لكنها واضحة الهدف- تهدف لتحقيق تسويةٍ استباقيةٍ بينه وبين المجتمع، في شكل ربط متطلبات استمرار نظامه مع تحقيق المطالب الأساسية للمجتمع السوري.
لكن تباطؤه، ثم تردده بين سياسات الحوار الشكلي وبين سياسات الحسم الأمني -الذي انتهى بتبني الإستراتيجية الأمنية المتشددة- جعل السلطة فعلياً تنزلق من مجال الحل السياسي الاستباقي إلى الحل الأمني.
وجعلت نتائج هذه السياسة الأمنية أفكار و"سياسات الإصلاح المجمدة" كافة من خلفها. وما كان ممكناً القبول به لم يعد ممكناً قبوله بعد تطور الأحداث. ويشير إلى ذلك طرح شعار إسقاط النظام. فهو لم يرفع إلا بشكل متأخر نسبياً. وكان المقصود به هو تغيير طريقة النظام بما يعبّر عن تطلع المجتمع لتحقيق تسوية بينه وبين النظام.
وكان ممكناً للنظام أن يستمر لو أن الرئيس بشار الأسد اختار أن يكون نصيراً للتغيير، وأن يقوده. وكان ممكناً له أن ينجح بدرجات معينة، لكنه اختار خطاب الثلاثين من مارس/آذار 2011 الذي لا بد -بكل تأكيد- من أن ترصده أي دراسة لاحقة على أنه بداية خسارة ما كان يراهن عليه الناس.
فما هو مؤكد أن الناس في حلب ودمشق الذين خرجوا وهم يهتفون يومي 27-28 مارس/آذار لم يكونوا جميعاً موظفين أو حزبيين، بل كان فيهم كثير من الناس العاديين المنفعلين بما يحدث، وتحديداً بسقف إصلاحات وعدوا بها بنبرة تفيد بـ"أن انتظروا غداً الثورة الإصلاحية التي سيعلنها الرئيس".
وما إن انتهى الخطاب حتى شعر الناس بصفعة الخيبة. هذا حدث بسيكولوجي واجه الجميع، ووضعهم في لحظة اضطراب رهيب بين ما هو متوقع ومأمول والصفعة الواقعة، وحديث المؤامرة، و"إما أن تكون معي أو ضدي".
2- خيار النظام بين الإصلاح وبقاء النظام على حاله هو خيار وهمي. ما لا يدركه النظام هو أنه في المراحل الثورية يكون خيار الناس بين الإصلاح التدريجي -ولكن الجذري- والثورة على النظام. والثورة في سوريا تختلف تماما. أولا، بسبب درجة قمعية النظام. وثانيا، بسبب طبيعة المجتمعات في المشرق العربي.
3- إن أي محاولة جدية تتضمن إجراءات ملموسة ومقنعة كانت ستلقى الترحيب من الناس، لكن ما جرى ويجري في سوريا هو عكس ذلك. وتمثلت الطامة الكبرى في أن الرئيس في خطاب 30 مارس/آذار قد قام بهدر ما يحتمل أنه رصيد له. وفي مثل نظم هرمية تقوم على رأس الهرم كان ذلك يعني نتائج خطيرة، خسر فيها الرئيس والنظام والمجتمع فرصة الانتقال التدريجي لكن الجذري والواضح المحطات والأهداف.
لم تعد غالبية الناس تنتظر الإصلاح، بل أصبحت غالبيتها تعتقد أنه لا بد من تغيير النظام، وهي إما مشاركة أو جالسة تحسب ثمن التغيير.
4- إن دور خصائص القيادة الفردية كبير في تطور الأحداث التي تقع في مفارق التغيرات الكبرى. ولقد كان أداء هذه الخصائص الفردية للرئيس مدمراً على ما كان يحتمل أن يتم. والفكرة أن هناك سيرورة يمكن أن تكون حافلة بالمفاجآت وليس حتميات من نوع: "النظام عاجز بنيوياً عن القيام بإصلاح". ولكن النظام رجح كفة الحتميات. هذا الترجيح بحد ذاته هو الذي كان قرارا احتماليا قبل أن يتخذ.
5- المشكلة في أن نظاماً من نوع النظام السوري يجر بانهياره الهيئة الاجتماعية برمتها لاحتمال الانهيار، والدخول في دوامة طويلة المدى من الاضطرابات والاصطفافات بحكم التركيب المتنوع للمجتمع السوري، وعلى المستوى الإقليمي يمكن أن يجر انهياره كامل إقليم المشرق إلى فخ التفكك الطوائفي والعشائري فعلياً... من الواضح حتى الآن أن سيرورة الأحداث تسير بسوريا نحو هذا الاحتمال الكارثي الذي يخسر فيه الجميع، ولكن بإمكان قوى الثورة تغييره لو أرادت وتنظمت وشكلت لها قيادة وطنية مستقلة تحمل طابع القوى الاجتماعية المناضلة على الأرض، وليس طابع الصراعات القديمة.
6- يقوم النظام السوري على استبداد أمني قمعي وعلى تحالف مع أصحاب المصالح أساسه الخدمات المتبادلة والفساد.
وما حدث في دور رجال الأعمال هو تطور دورهم وتأثيرهم بشكل سريع على غرار دور الطبقة المصرية وتمركزها حول جمال مبارك. هذا ما اضطلع به أقوياء رجال الأعمال المتحالفين مع أقوياء البيروقراطية الأمنية.
لو أن أي مثقف أو مواطن كتب أو نشر أو قال ما قاله مخلوف لسجن. ما قاله مخلوف -من دون أن يتلقى عقاباً- جعل النظام يخسر ورقة شرعية السياسة الخارجية.
7- يخشى النظام في سوريا من أن أي إصلاح سوف يؤدي إلى أن يفلت من يده زمام المبادرة. فهو يرسخ مجموعة من المخاوف والأوهام يحميها القمع، وخشي النظام من أن أي ارتخاء في قبضته قد يبددها. وبعد أن تتبدد تبدأ حالة انهيار لا يمكن وقفها. هذا هو موقف النظام من أي إصلاح جذري.
كانت المخاوف تعبر عن قصر في الرؤية كما كانت تعكس "الخوف من الإصلاح" بسبب المصالح.
8- لقد قرر النظام السوري وأد الاحتجاج في المهد، وبأي ثمن، لكي يتجنب أي تراجع أمام المظاهرات نحو الإصلاح الاضطراري، مما يشجع الناس على الاستمرار في الثورة. ومن هنا الوحشية غير المسبوقة في نهج النظام السوري في التعامل مع أعمال الاحتجاج. لقد اتخذ قرارا بمنع الاعتصامات في المدن وكانت الوسيلة حصد المتظاهرين بالرصاص الحي.
خلال التطبيق الكارثي لهذه الإستراتيجية لم يخرج أي مسؤول سياسي أو جبهوي أو حكومي لقول شيء، إلى أن خرج أخيراً الأمين القطري المساعد للحزب لينفي أي فكرة لدى آخر ساذج حول الإصلاح، ويحدد سقفاً لم يعد مقبولاً، ويقود النظام إلى هاوية جديدةٍ.
9- قرار النظام السوري هذا هو أيضا السبب من وراء بعض الخطوات التي تنم عن صلف وغرور، ويعتبرها حتى بعض مؤيديه غبية. وهي ليست مجرد غباء، بل هي قسوة حمقاء. وقرار النظام بوأد الثورة أمنيا هو السبب في أن دعاية النظام والناطقين الإعلاميين باسمه تبدأ وتنتهي بالشتم والسباب. فلا يمكن النطق باسم أعمال كهذه وتبريرها والاحتفاظ بصورة الإنسان في الوقت ذاته. أحرجت الإستراتيجية الأمنية للنظام أصدقاءه والمعتدلين في المعارضة والنظام نفسه، وجعلته يتكبد خسائر معنوية وسياسية كبيرة.
10- ما أخر الانتفاضة في المدن الرئيسية هو الأسباب التالية مجتمعة: القسوة الوحشية وشدة القبضة الأمنية في المدن الرئيسية، وكثرة أصحاب المصالح التجارية والموظفين، والخوف من المخاطر والفوضى في ضوء المثالين العراقي والليبي، واستعادة ذكريات ومخزونات حوادث حلب وحماة في الثمانينيات. ومع ذلك تحركت حماة ببطولة، وكانت هنالك تحركات بطولية في دمشق. ولكن لا بد من أن تدرك حلب ودمشق، إن تحركهما هو الضمان ضد الفوضى.
11- أصبح التظاهر والاحتجاج ممكنا في الأطراف. وقد واجهه النظام بوحشية، وتم الرد عليه باصطفافات محلية يذكيها منطق "النصرة" و"التضامن"، فاستفراد الدولة بالناس في الأطراف يتخذ طابعا وحشيا تحقيريا مُذِلا. لقد قاومه السكان ببسالة وكرامة. وفي بعض المناطق تتحول الثورة إلى ثورة أرياف. ولا توجد في التاريخ ثورة أرياف سلمية. إن من يواجه اعتداء على بيته وعائلته وأهله ويدافع عن نفسه لا يتجاوز الأصول المرعية في أي ريف في العالم.
إن قابلية التسلح فيما لو توفرت شروطها الأخرى (أي عدا شرط توفر السلاح) هي حقيقة محتملة في سوريا ضمن منطق الدفاع، وسيفتح ذلك المجال لاستغلال لاعبين متعددين هذا الاحتمال. هذا احتمال لا نشجع عليه لكن يجب ألا يُتجاهل في مجال التصورات.
12- ما يقوم به النظام من عدم الاكتفاء بدور الأجهزة، وزج الجيش مباشرة في قمع المتظاهرين بوحشية، هو أمر خطير للغاية. فتعامل الجيش مع مواطنين بقمعية يعني أنه يتعامل معهم كأعداء، وهو وضع لا يمكن أن يستمر. وسوف يؤدي إلى المساس بالجيش نفسه، من حيث معنوياته ونظام الانضباط والطاعة وعقيدته القتالية. والنظام يتحمل المسؤولية عن ذلك.
الدوس على أبناء الوطن الملقى بهم مكبلين على الأرض ليس بطولة ولا شرفا، ومن يقوم به ليس حاميا للديار. وسوف يثبت الزمن أن مثل هذا السلوك يعجز حتى عن حماية النظام.
13- لا يمكن أن تحتج الطبقات الوسطى والبرجوازية ومثقفو المدينة على طابع الثورة هذا، فعدم مشاركتهم الفاعلة في الثورة هو السبب الرئيسي لقسوة الدولة هذه في الأطراف. ومشاركتهم قد تسمح بحوار عقلاني نقدي في الثورة حول طريقها ونهجها.
كانت تلك الطبقات مستفيدة من ثمار النمو. مثلاً خرجت طبقة كاملة من ميدان التأثير بسبب ذلك وتفضيلها مصالحها واستنزاف العمل اليومي لتلبية الحاجات المستجدة في مجتمع السوق الاستهلاكي.
14- النظام السوري ليس مذهبيا دينيا كالنظام الإيراني الذي يعتمد على ولاية الفقيه الغائب، ولكنه في الوقت ذاته أقل تعددية، ويستخدم إيديولوجية حزبية كان لها دور هام في يوم من الأيام حتى تحولت إلى أداة بيد النظام والأجهزة الأمنية. كما يستخدم ولاءً اجتماعيا طائفيا من دون أن يكون قط نظام طائفة بعينها. وفي فترة من الفترات وحتى أيام المواجهة مع الإخوان كان قسم كبير من المعتقلين من العلويين. ولكن في أوقات الأزمات والاصطفافات هناك من يوتر الورقة الطائفية.
15- استخدام الولاء الاجتماعي والعشائري والإقليمي لا يعني أن الطائفة تحكم، بل يعني توليد عصبية لتمتين ولاء الأجهزة الأمنية للنظام.
16- قد تكون الطائفة فقيرة ومضطهدة بل أفقر وأكثر عرضة للاستغلال من غيرها، ولكن النظام يشعرها بأنها مستهدفة. ووجود اتجاهات وهتافات وشعارات من بعض المتطرفين أو المتعصبين يعزز ذلك ويطوره. والنظام يحاول أن ينشر هذا الشعور بين الطوائف الدينية عموما، فينتج طائفية. ويحول ما هو أمر عابر في المظاهرات إلى شأن أساسي في دعايته.
17- الطائفة الاجتماعية الأهلية موجودة. أما الطائفية السياسية فليست قائمة بشكل طبيعي في المجتمعات، إنها تُصنَع بالتدخل الأجنبي وباستخدامات الدولة والمعارضة وأصحاب المصالح.
18- إذا كان النظام يستخدم التهويل والتحشيد بأساليب تحريضية، فإن على المعارضة التي تريد بناء دولة مدنية أن تطرح خطابا مدنيا ديمقراطيا يقوم على بناء الوطن الواحد لجميع مواطنيه، وعلى عروبة سوريا، وعلى التزامها بدورها التاريخي في المشرق العربي، محصنة في وحدتها وتنوعها ضد الطائفية.
19- والأساس هو تثوير الوطن كله بما فيه المدن الكبرى وليس توقع الدعم الخارجي سواء كان تركياً أو غربيا، أو خليجيا. لكل الدول أجندات متعلقة بمصالحها. وفي حالة الغرب ليست المجتمعات العربية مضطرة لتقديم التنازلات السياسية كما فعلت الأنظمة. إن خيار الديمقراطية وإرادة الشعب هي الأمور التي تفرض نفسها على الرأي العام الغربي.
20- إن من يريد أن يحكم سوريا يجب أن يتقن قيادة الثورة نحو نهايتها المتعلقة بتغيير النظام السياسي القائم، وأن يضع تصورا واضحا واثقا وموثوقا لسوريا ديمقراطية تقوم على المواطنة بحقوقها المدنية والاجتماعية والسياسية.
كما يجب أن يثبت منذ الآن أنه يتقبل الحوار العقلاني والنقدي. كما يجب أن يعلم أن قيادة سوريا هي شأن لا يدخل المشرق العربي كله ضمن سلطته بالطبع، ولكنه يقع بالتأكيد ضمن مسؤولياته السياسية المباشرة. وهذا يشمل فلسطين ولبنان، ومكافحة الطائفية في العراق، ورفض التبعية السياسية لإيران وتركيا، والتعامل مع الصهيونية كخطر وجودي على المنطقة.
لا تتوقف المسألة على التخلص من النظام، بل يتطلب الأمر رؤية، وبرامج واقعية، وقيادة مسؤولة. وهذه هي مهمة القوى الوطنية الديمقراطية الجذرية حاليا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق